**حفلة الإنس والشياطين: رؤية محمد الفخراني العجائبية للتعايش والمحبة**
**مقدمة:**
في عالم الأدب المعاصر،
يبرز اسم الكاتب المصري محمد الفخراني كصوت فريد يجرؤ على تجاوز الواقعي ليلامس
عوالم ما وراء الطبيعة، مقدماً رؤى فلسفية عميقة حول التعايش الإنساني ومفهوم
الوجود. مجموعته القصصية الأحدث، "حفلة الإنس والشياطين"، الصادرة عن "دار
العين" في القاهرة، ليست مجرد مجموعة قصصية عابرة، بل هي دعوة مفتوحة لإعادة
التفكير في الثنائيات التقليدية وإقامة جسور بين ما يبدو متناقضاً. إنها رحلة
أدبية غنية تأخذ القارئ إلى فضاءات سردية مبتكرة، حيث تتلاشى الحدود بين الإنسي
والشيطاني، ويتحول الصراع الأبدي إلى احتفال بالسلام والمحبة.
![]() |
**حفلة الإنس والشياطين: رؤية محمد الفخراني العجائبية للتعايش والمحبة** |
**محمد الفخراني رائد الغرائبية في الأدب العربي**
محمد الفخراني، الكاتب المصري الحائز على جوائز مرموقة مثل جائزة معهد العالم العربي في باريس عن روايته "فاصل للدهشة"، يواصل في "حفلة الإنس والشياطين" نهجه التجريبي والمغامر. لا يكتفي الفخراني بكسر القوالب السردية التقليدية فحسب، بل يعيد تشكيل جوهر العوالم التي يقدمها. يستفيد من إرث الحكايات الشعبية و"ألف ليلة وليلة"
- ليخلق عوالم عجائبية متصلة بالواقع ومنزاحة عنه في آن واحد، ما يمنحه مساحة واسعة لإعادة
- تعريف مفردات الوجود. هذه النزعة الغرائبية ليست مجرد أداة شكلانية، بل هي صميم رؤيته الفنية
- التي تدعو إلى التساؤل عن المسلّمات وإعادة بناء المفاهيم.
**"حفلة الإنس والشياطين"تجاوز الثنائيات وبناء جسور التعايش**
تُعد المجموعة القصصية "حفلة الإنس والشياطين" نموذجاً بارزاً لقدرة الفخراني على بناء سرديات تقوم على الوقوف في منطقة التخوم بين نقيضين: السماء والأرض، الحياة والموت، والإنس والشياطين.
- لكن بدلاً من إبراز الصراع، يُقيم الفخراني تصالحات ذكية بين أطراف هذه الثنائيات. في قلب هذه
- المجموعة يكمن عالم يتآخى فيه الإنس والشياطين، ويعيشون في حالة من السلام والمحبة، متجاوزين
- بذلك الموروث الثقافي الذي طالما صور الشياطين
ككيانات شريرة ومُعادِية.
يُقدم الفخراني
الشياطين في صورة مؤنسنة، يمنحهم أجساداً وأرواحاً وعقولاً وقلوباً، فيتعايشون مع
البشر كجيران وأصدقاء. تنشأ بينهم علاقات صداقة عميقة، وقصص حب، وحتى إعجاب
بإنجازات الطرف الآخر أو غيرة بناءة تدفع نحو الإنجاز. هذا التصوير الجريء يعيد
تعريف مفهوم "الشيطان"، محوّلاً إياه من رمز للشر المطلق إلى كائن قادر
على التفاعل الإيجابي مع البشر.
**الشغف كمفهوم مشترك قصة الشغف**
تتجلى هذه الرؤية في "قصة الشغف"، حيث تعبر شيطانة ساردة عن امتنانها للبشر لاختراعهم كلمة "الشغف". تقول: "الشغف، لو أن الإنس لم يخترعوا أو يكتشفوا غير هذه الكلمة فأنا ممتنة لهم. نحن الشياطين كنا نشعر بمشاعر قوية تجاه الأشياء، نحبها، ونرغب فيها، ولا نعرف بما نسمي هذا الشعور القوي، حتى أسماه الإنس: الشغف".
- هذه المقولة تلخص جوهر رؤية الفخراني، حيث يجد القاسم المشترك بين الكائنات المختلفة في
- المشاعر الإنسانية الأساسية، ويُظهر كيف يمكن للغة البشرية أن تُثري فهم الكائنات الأخرى لوجودها
- الداخلي.
**الشياطين بصورة مثالية "في بيت سلوى لطيف"**
تتكون المجموعة من 10
قصص، كل منها يمزج بين عالمي الإنس والشياطين، ليولد نوعاً من التطبيع والمؤانسة. على
عكس أعمال كلاسيكية مثل "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا
الإلهية" لدانتي، التي تتبع صعود البشر إلى عوالم الآخرة، يُجسّد الفخراني
الشياطين في صور بشرية عادية، موجودين على الأرض، في الأسواق والشوارع ومدن
الملاهي. إنهم يمرحون ويعانون كالبشر، بل إنهم أحياناً يكونون أكثر مثالية.
- في قصة "في بيت سلوى لطيف"، نرى شيطانة تكتب الشعر، تمتلك مكتبة ضخمة، وتطبخ لضيفها
- الإنسي. وفي مشهد آخر، عندما يجد زوجها الشيطاني وصديقه الإنسي حافظة نقود، يكون الشيطان
- أكثر حرصاً على إعادتها لصاحبها، بينما يُبدي الإنسي عدم الاكتراث.
هذا التناقض يضع البشر في موقف يعكس عيوبهم ونقاط ضعفهم، بينما يرفع من شأن الشياطين، مما يدعو القارئ إلى مراجعة الصور النمطية المسبقة.
**الفضاء العائم والتجهيل الزماني والمكاني بعد إنساني كوني**
من أبرز سمات أسلوب
الفخراني في هذه المجموعة، وكثير من أعماله الأخيرة، هو غياب التحديد الزماني
والمكاني. الفضاء المكاني عائم وغائم، لا يهم في أي مدينة، عربية كانت أو غربية،
لكنها مدينة حديثة قادرة على استيعاب التنوع والدمج بين المختلفين. وكذلك الفضاء
الزماني سائل وعائم، باستثناء الزمن الطبيعي من نهار وليل، ولا وجود لمرجع تاريخي
محدد.
- هذا التغييب المرجعي للمكان والزمان، إضافة إلى تغييب أسماء معظم الشخصيات (باستثناء بعض
- الشياطين في قصة "في بيت سلوى لطيف")، يمنح القصص بعداً إنسانياً عاماً. إنها تتحول إلى
- أمثولات رمزية كونية تعيد إنتاج سردية المحبة والتنوع والتعايش بين الفرقاء التاريخيين، لتكون قابلة
- للتطبيق في أي زمان ومكان. هذا الأسلوب يعزز من عالمية
الرسالة التي يسعى الفخراني لتقديمها.
**اللعب كاستراتيجية سردية وجمالية "اللعب مستمر"**
يعتمد الفخراني في "حفلة
الإنس والشياطين" على استراتيجية اللعب كجزء أساسي من العملية الفنية
والجمالية. القص لديه هو لعبة، والحكاية درجة من مشاغبة العالم وإعادة اكتشاف
الوجود. تتجلى هذه الفكرة بوضوح في قصة "اللعب مستمر"، حيث يلعب الزوجان
بأعمارهما، يقفزان فجأة من العشرينيات إلى السبعينيات، ثم بين سن المراهقة
والثلاثينيات والستينيات، مع ما يتبع ذلك من تحولات في بنية الجسد وحتى تحول الزوج
إلى كانجرو.
- هذا اللعب ليس مجرد موضوع حكائي، بل هو استراتيجية سردية وجمالية يتبعها الكاتب في كثير من
- أعماله. السرد والفن بالنسبة له هما حالة من اللعب مع اللغة ومع العالم، بحثاً عن جمال الوجود ومتعة
- الحكي. هذا النهج التجريبي يفتح آفاقاً جديدة للتعبير الأدبي ويتحدى القوالب
التقليدية للقص.
**"أغنية التسكع" الكاميرا المتجولة واكتشاف جمال الوجود**
في القصة الأولى من المجموعة، "أغنية التسكع"، يُقدم الفخراني شخصية بطل غامضة لا تُحدَّد ماهيتها، أقرب إلى كاميرا متجولة أو عين تحدق في العالم وتفاصيله. لا يوجد حدث مركزي، ولا عقدة أو حل، بل مجرد تجوال و"تسكع" في شوارع وسط المدينة وأزقتها.
- يعيد الراوي في هذه القصة اكتشاف جمال الوجود، حتى فيما يبدو قبيحاً للوهلة الأولى، مثل الشحاذين
- والمشردين والمجاذيب. هذه القصة تعكس فلسفة الفخراني في البحث عن الجمال في كل مكان
- والاحتفاء بالحياة بكل تجلياتها، حتى الهامشية
منها.
**الخاتمة**
"حفلة الإنس والشياطين" ليست مجرد مجموعة قصصية عادية، بل هي تحفة أدبية تدعو إلى التأمل وإعادة النظر في المفاهيم المسبقة. محمد الفخراني يقدم رؤية أدبية جريئة تجمع بين الغرائبية والفلسفة، مستلهماً من التراث ومبتكراً في آن واحد.
عبر قصصه، يدعونا الفخراني إلى
عالم تتلاشى فيه الفواصل بين المتناقضات، ويسود فيه التعايش والمحبة، ليُثبت أن
الفن قادر على إعادة تشكيل الواقع وإلهام رؤى جديدة للوجود الإنساني. إنها قراءة
ضرورية لكل من يبحث عن أدب عميق ومختلف، يتحدى التفكير النمطي ويحتفي بجمال التنوع.